Sunday, May 9, 2010

جثـــة في خرائب المعــز... من سلسلة ملفات باردة

"جرائم على طريق الجحيم"


جلست أمامه كعادتي كل مساء أتأمل يده وهي ترتفع بكوب الشاي الى شفتيه فيرتشف منه القليل ثم يعيده الى مكتبه الصغير. كانت يده تلك تحكي سنوات طوال جلس فيها خلف مكتبه شاهدا صامتا على ما اقترفت ايدي البشر... وكأن الزمان توقف عند عم ايوب.
كنت انتظر حديث المساء بشغف رغم ما كان يسببه لي من أرق واجهاد... وكأنني احصل على نسخة مبكرة من صحيفة اليوم التالي...
وفي كل ليلة، يغلق ملف آخر حاملا رقما متسلسلا ليستقر في درج حديدي قديم قبع في احدى أركان حجرة الأرشيف المظلمة... والضحية... مجرد رقم بطاقة واسم في دفتر النفوس نسي مع الزمن وطويت صفحته... وقيدت القضية ضد مجهول....

(1)
"جثة في خرائب المعز"

أخرج ملفا باهتا وأزاح بكفه سنوات من الأتربة تراكمت على وجهه، نظر الى الملف وبدا أنه يعرفه جيدا. تناول من داخله ورقة صفراء علاها صورة طفل في نحو التاسعة من عمره... ابتسم للصورة في أسى وتناول كوب الشاي....

- يلا يا حماده علشان تجيب بامبرز لأخوك 
- بس يا ماما انا لسه ماخلصتش لعب
- تلعب اما ترجع دلوقت خد الفلوس دي وانزل لعم امين البقال جيب الحاجة
- ممكن اشتري بون بون
- ماشي نوع واحد بس...
كان الجو باردا غائما قبيل المغرب بقليل... تأخر الصغير في العودة... لم تكن الأم قلقة فقد اعتادت منه التأخر بسبب حبه للعب مع قطط عم امين...بس اما اشوفك يا حماده ان ماوريتك... هكذا قطعت الوقت بأن أخذت تتوعده...
مرت ساعة كاملة وبدأ الظلام يخيم على الحي الهادئ.. تسلل القلق الى نفس الأم شيئا فشيئا، ارتدت جلبابها وحملت رضيعها بين يديها ثم هبطت الدرجات ودلفت الى الدكان الذي كان مجاورا للعمارة... سألت عن صغيرها حماده لكن صاحب الدكان أشار لها بأنه لم يره اليوم أبدا...
عادت أدراجها وجلست تفكر أين عساه يكون... تذكرت كيف كاد يصيبها بنوبة قلبية الشهر الماضي حين عاد من المدرسة فلم يجدها في البيت وخرج يبحث عنها سيرا على الأقدام حتى وصل الى بيت جده الذي يبعد ثلاثة أحياء عن منزله. وكانت تتعجب لقدرته على تذكر العنوان والسير كل تلك المسافة... لعله فعلها ثانية... تناولت سماعة الهاتف وهي تدعو أن تجده لدى والديها... لكن والدتها أخبرتها بأنها لم تره منذ يومين...
بدا القلق والخوف ظاهرا على محياها... أين عساه يكون... في تلك اللحظة دخل زوجها البيت منهكا من عناء يوم عمل طويل. وقف أمامها صامتا لحظات... تلفت حوله... سألها عن الصغير... أخبرته بما حدث وهي تغالب دمعة حائرة في عينيها...
أوصاها بأن تبقى في البيت مع الرضيع في حال عاد الصغير...
خرج يبحث عن طفله عند كل معارفه وخرج معه جيرانه وأقاربه. بحثوا في الحي شبرا شبرا... بحثوا في الأحياء المجاورة... لم يتركوا بابا الا وبحثوا فيه، لكن لا شيء...
في تمام العاشرة مساء توجه الأب الى قسم الشرطة في المنطقة للابلاغ عن فقدان ابنه...
- يعني ايه لازم يمر 24 ساعة على اختفاؤه اي قانون واي عرف بيقول مادوروش على ابني دلوقت... ممكن يكون جراله حاجة... ممكن تلحقوه قبل مايجراله حاجة
- انا مقدر خوفك وقلقك كأب لكن ده القانون
- لا يا ابني انت مش مقدر.. انا استنيته اربعين سنة من عمري لحد ماشفته... امه عملت المستحيل علشان يبقاله أخ...
- الوقت اتأخر يا حاج...
- ويجيلي نوم ازاي وابني بره فرشته مش عارف هو بردان ولا دفيان... جيعان ولا شبعان... نايم ولا خايف...
وابتدأت رحلة البحث في انحاء المدينة... ومرت ثلاثة أيام طويلة ثم جاء الخبر...
وقف الأب على باب المشرحة ينتظر الاذن بالدخول.. كان وجهه شاحبا وقلبه يرتجف بشدة... ارتعشت أنامله وهو يزيح طرف الغطاء الأبيض عن وجه الجثة التي رقدت على طاولة المشرحة...
انه هو هو... وهل يخطئ الأب وليده وزهرة عمره...
كانت يداه متيبسة في وضع غريب... عضلات وجهه متقلصة وشفتاه زرقاوان وعلى أسنانه بقايا مادة سوداء غريبة... نظر الأب بانكسار امتزج بسؤال حائر نحو الطبيب الشاب...
- ده بقية ظرف بلاستيك... الخاطف حاول يسكته بيه... جزء منه نزل في مجرى التنفس... ابنك كان شجاع قوي...
- لقيتوه فين
- عيال كانت بتلعب في الخرب قريب من حيهم لقيوه هناك...
ثلاثة أعوام مضت على الأب، اعتاد الذهاب صباح كل أربعاء الى شعبة التحقيقات لمتابعة آخر مجريات القضية... كان ذلك المشوار متنفسه الوحيد بعد فقد صغيره... دخل الى مكتب الرائد الشاب فوجده كعادته دوما يستقبله بابتسامة ويأمر له بكوب الشاي... جلس اليه مستفسرا هل من جديد... نظر اليه الرائد الشاب بخجل ثم أشاح بوجهه عنه وتلعثم بعبارات الاعتذار والأسى... نعم... توقفت التحقيقات لعدم كفاية الأدلة للاستدلال على الجاني...
خرج الأب المكلوم من المبنى يجر خطواته... انسكبت من عينيه دمعة حارة وهو يتذكر وجه طفله وثغره الباسم ثم يتذكر كلمات الرائد الأخيرة... تقيد القضية ضد مجهول...