Friday, September 24, 2010

"حدوتة من اواخر الشتا"

http://farm1.static.flickr.com/41/82547171_d0653ae28d.jpg
كتير مننا بيجد متعة في السفر وكتير مننا بيعشق المشي في بواكير المطر...قضينا نص عمرنا على الطريق مش مهم رايحين فين المهم ماشيين وعارفين الطريق... ومع زحمة الحياة نسينا احنا فين... وراح من عمرنا كام
اكتفينا بحساب السنين في اول الحياة وغالبا كنا بنضيف شهور على حساب عمرنا علشان نكبر بسرعة...ومع الزمن نسينا نكمل حساب.. نسينا اتولدنا امتى..اول الشهر ولا اخره..بيقولوا عن اواخر العمر خريف العمر..وبالنسبة لي خريف العمر هو اوله لاني اتولدت في اواخر الخريف واول الشتا...
لا الحكاية دي مش عني انا..دي حكاية كل يوم، بتعدي صورها قدامنا من غير ما ناخد بالنا وتختفي من غير ما نحس بيها..ونفتكرها لما نبقى احنا ابطالها...
حدوتة صغيرة نفتكر بيها احنا بقى عندنا كام سنة.. حدوتة والدي ووالدتي ومشوار العمر كله... حدوتة بنقولها ونشوفها ومش واخدين بالنا اننا هنعيشها بدورنا...حدوتة من اواخر الشتا...

http://www.jasontopia.com/wp-content/uploads/2007/10/uk2007-077blog.jpg

(1)
"يا مسافر وحدك..."
عمرها حصلت معاك وركبت القطار وقادك حظك العاثر للجلوس الى جانب رجل كبير في السن فاضطررت لاحتمال تصرفاته اللامعقولة وشكواه غير المنقطعة وحديته المطول فخرجت من الرحلة دي بقرار انك عمرك ما حتركب قطار تاني ابدا!
طبعا ده مش اتهام ده حضرتك محترم وعلى خلق ومن حسن ادبك تعاملت مع زميل الرحلة بكل احترام وطولة بال.. بل وحتى انك استحملت رغيه وقصصه العجيبة وبطولاته الغريبة ايام عرابي بكل صدر رحب... كنت في الاول بتنظرله بادب وتبتسم على مضض وتومئ بالايجاب والموافقة احيانا وترسم علامات الاعجاب او التعجب احيانا وتجامل بكلمة خارجة بكماشة من تحت ضرسك...
انت بتحاول تجامل وماتكسرش بخطره.. بل انك جيت على نفسك واستحملته.. لكن في النهاية انت بني ادم والبني ادم مننا طاقة وانت فيك اللي مكفيك ومش محتاجه العجوز ده كمان يفكرك بحال الدنيا المايل والزمن اللي اتشقلب حاله والحكومة وقراراتها العبيطة.. ومش مضطر لاحتمال شكواه وسماع تاريخه المرضي بقية الرحلة... وبعد عشر دقايق بقيت تبص في الساعة ثم في النافذة ولما العجوز يلفت نظرك باشارة من صباعه تلتفت اليه بابتسامة عبيطة ثم تتحول عنه الى الموبايل متشاغلا عن الاستماع الاجباري لبقية مذكرات الحرب العالمية التانية... فيفهم العجوز الحركة ويخفض رأسه بانكسار فيصمت وينشغل بيده وبالساعة ويفرك طرف قميصه القديم وينكته ثم يخرج منديلا من جيبه طوي بعناية يمسح بيه جبهته ووجهه على ما بذل معك من مجهود ضائع للتواصل ومحاولة اثراءك بتجربته في الحياة.. ويبقى صامتا بقية الرحلة يتأمل المسافرين في تحركاتهم وسكناتهم يتفرس الوجوه وكأنه يبحث في تلك الملامح عن زمن اخر ورفيق سفر اخر...
من فضلك، فكر تاني...
http://bibledude.net/img/grandfather.jpg
(2)
"انت عمري..."
احنا ضيوف على بيت عمك حسن يوم الجمعة العائلة كلها مجتمعة واخيرا التم شمل الاسرة والبنات والاولاد والاحفاد كلهم موجودين.. وعم حسن لحظة ما وقع بصره على هذا الجمع الغفير بقى قلبه زي قلب طفل مسك في ايده اول عجله وفرحته بيهم مالهاش حد... البنات وزوجات الابناء غيروا للعيال اللي ما صدقوا وقاموا للعب ثم توجهن للمطبخ لتحضير وليمة تليق بالمناسبة... الرجال وجدوها فرصة وجلسوا في الصالة كل مجموعة انسجمت في حديث مختلف.. وعم حسن قاعد بيراقب الحديث.. كانت المصطلحات العلمية واللغة الانجليزية تطغي على الحوار حاول عم حسن سحب الحديث في اتجاه يفهمه فسأل زوج كبرى بناته الطبيب الشاب عن سبب الالم اللي كان يزعجه بقاله مدة.. رد عليه الطبيب باقتضاب شديد الى انه عرض بسبب الاجهاد ولا شيء خطير ثم ادار وجهه عن عم حسن وانخرط في حديث اعجمي مع بقية المجموعة ولم تفلح محاولات عم حسن في جذب انتباه احد الجالسين اليه فقام من المجلس ولم ينتبه اليه احد.. توجه الى المطبخ وعلى وجهه ابتسامة مشرقة وهو يعد نفسه بقضاء وقت ممتع... كان المطبخ اشبه بخلية نحل زحمة واصوات حريمي ومواضيع نسائية شائكة.. دخل عم حسن المطبخ فساد صمت مفاجئ! حاول فتح موضوع فسأل احدى بناته عن الابناء والامتحانات وجاءت جميع الاجوبة على قد السؤال ثم يسود الصمت... وانخرطت النسوة في تحضير الاكل والحديث حول الابناء..
خرج عم حسن من المطبخ وهو يتنهد.. سمع صوت الاحفاد وضحكاتهم فتوجه الى حيث جلسوا كان في يد كل منهم جهاز موبايل واحد على الاقل وكل واحد عينه في موبايله واصوات رنات منخفضة بين الحين والاخر.. جلس عم حسن بينهم واخذ يراقبهم... كانت المفردات المتداولة بينهم عجيبة شكلها عربي لكن عربي غير العربي اللي يعرفه عم حسن... خرج عم حسن وقعد في الجنينة تحت التينة العتيقة وسرح في ملكوت الله... احس بحد يجلس في حجره كان حفيدة الصغير الذي سأله.. جدو انت ليه قاعد هنا وحدك؟
داعب عم حسن وجه الصغير وتنهد وقال.. الدنيا جوه زحمة ومافيش حد قدي التينة دي زرعتها من اربعين سنة فاهماني وفاهمها هي دي اللي لو اتكلمت تسمعني...
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/0/04/Old_Man_in_Tunis.jpg
(3)
"جبار..."
المكان سرادق عزاء والزمان بعد المغربية.. انت رايح تقوم بالواجب ولفت نظرك راجل عجوز من ملامح وجهه تحس انه عمره من عمر الدنيا قاعد لوحده على جنب قريب من اتنين شباب من اهل الميتة.. كانت في عنيه صلابة عجيبة رغم منظر الانكسار والبؤس اللي هو فيه... جلابيته نظيفة رغم قدمها قدم الزمان .. وفي ايده ساعة مطلية ذهب كان بيعدلها على معصمه كل شويه.. كان خادم السرادق كل ما يمر بالقهوة او التمر العجوز يزيح وجهه عنه..
كان باين من منظره انه زوج المتوفاة... وبالرغم من كبر سنه ورعشة يديه الا انه كان يبدو انه الست الكبيرة كانت مهتمة بيه ومراعياه... يظهر انه فقد اكثر من مجرد زوجة...
الناس تروح وتيجي وهو ذاهل عن الدنيا وكانه في ملكوت اخر...
قليلا ثم ترى العجوز يتناول من جيبه علبة دواء يضع في كفه حبتين بيد ترتجف.. ينظر اليها مليا ثم يلتفت حوله كتائه في الصحراء يبحث عن جرعة ماء.. وانت تبصله بطرف عينك تختلس النظر حتى لا ينتبه الى مراقبتك له.. بينك وبين نفسك عاوز تقوم تجيبله كاس ماء.. لكن خايف تضطر للاعتناء به بقية المساء.. الطاولة امامه ليس بها سوى اكواب بلاستيكية مستهلكة ليس بها سوى بقايا ماء... وانت في نفسك تدعو.. يارب ابعتله حد يديله كاس ماء.. لكن لا ياتي احد.. ينظر العجوز ثانية الى دوائه في كفه.. واخيرا ينحني على الطاولة امامه ويلتفت في قلق وعند تأكده من تشاغل الجميع يتناول كوبا تبقى فيه رشفة ماء فيبتلع دواءه ويتجرع الرشفة في ظمأ.. وحالما اخفض راسه جاءت عينه في عينك وفي عينيه نظرة وكأنها تحمل حزن الف سنة تحجرت فيها دمعة عجز وخجل...
فكر تاني...
http://gallery.photo.net/photo/5748118-lg.jpg
(4)
"بائع البحر"
ياه الرحلة دي بقالك بتخططلها من سنة.. بحر وهوا.. استجمام وراحة.. مافيش زي البحر في اجازة الصيف.. طبعا قبل ما تمشي لازم تشتري شوية هدايا وتذكارات للاجازة، وبما ان المدام والاولاد قاموا بالواجب وجاؤوا على اخر مليم في جيبك فمفضلش غير الباعة المتجولين على البحر على قد جيبك...
كان الباعة ينتشرون ببضاعتهم في طريق المصطافين ينادون على بضاعتهم، وعلى طرف غير بعيد جلس عجوز امام فرشه ساهما... قولت في نفسك هو ده واتجهت نحوه.. كانت بضاعته جميلة بتلمع اصدافها تحت الشمس.. اقتربت منه وتناولت بعض القطع وسألته على تمنها... التلاتة بخمستاشر.. بعشرة يا حاج وانا هاخد مجموعة تانية.. لا ما ينفعش همه خمستاشر.. يا راجل يا طيب غير علشان نشتري انا هاخد منك كتير.. خمستاشر لكل تلاتة.. لا يا عم باينك مش عاوز تبيع..
وهنا احمر وجه العجوز ونفرت عروقه وتمتم بكلام ينم عن غضبه... انت حسيت بالذنب وعاوز تراضيه.. مالك بس ياعم انا مش قصدي ازعلك انا فعلا عاوز اشتري منك..
ما تزعلش مني يا ابني انا بس.. مدايق شويه..
ليه بس ده انت حتى في نعمة قدامك البحر والهوا والناس الحلوة دي..
ماهو انا علشان كده مدايق.. الحكومة كل يوم تطلع بقرار شكل قالوا الشط ده هيقلب سياحي اشي فنادق واشي مطاعم واحنا ماعدتش لينا مطرح هنا هلم فرشي واروح فين طيب انا بقالي على الشط ده اربعين سنة ماعرفش مكان تاني ولا شغلانه تانية.. دلوقت قطعوا عيشنا وبكرة يعزلونا من المنطقة علشان تشجيع السياحة... نروح بعيالنا فين طيب..
وجعك قلبك مش كده.. انت مجرد سائح جاي تصيف وتتبسط وماشي يهمك قوي مستوى الخدمة والمرافق السياحية في المنطقة ولو ماكانتش على مستوى يبقى الشط ده ما يلزمش... وهو... ليه رب اسمه الكريم..
فكر تاني..
http://journalstone.com/wp-content/uploads/2009/10/Old-Man-Sitting-Alone.jpg
(5)
"زوروني كل سنة مرة"
ارجع بذاكرتك شوية.. يوم عيد الام.. افتكرت..  قبل اليوم ده باسبوعين اتصلت باخواتك البنات وسألتهم ياترى ماما تحب نجيبلها ايه.. ناقصها ايه.. وفي اليوم المحدد خدت هدية الغالية وزوجتك واولادك لبيت العيلة وكنت حريص على استرضاء والدتك وركعت قدام الكنبة اللي هي قاعدة عليها وقبلت ايدها وقولتلها كل سنة وانت طيبة يا اعظم ام في الدنيا...
ورغم انه يوم واحد فقط في السنة الا ان الام بتحس بفيض عاطفة ابناءها وبرهم ليها.. مافيش حاجة غلط في الصورة دي.. طيب فكر تاني وبص للصورة تاني، المرة دي بص في الزاوية الصغيرة اللي في اخر الصورة... شفت الراجل اللي قاعد في طرف الصالون بينظر للهدية اللي في ايد والدتك... وبينظر بانكسار للابناء المتحلقين حول امهم بود وحب... الراجل الكبير ده هو والدك.. هو في اليوم ده حزين وقلبه مكسور..
فاكر وانت صغير كنت كل ماتعمل عمله تجري وتستخبى في حضن امك.. تتحامى بيها منه.. كنت لما تحتاج لبس جديد او كراسة تطلب منها رغم انك عارف انها مابتشتغلش.. كنت لما تتألم ترمي راسك على كتفها.. كنت لما تفرح تجري عليها تبشرها... ولما كبرت وتزوجت واصبحت رجل اسرة كانت هي سترك والعقل الجميل اللي بيسمع ويطبطب على كتفك ويحل مشاكلك... اما هو فكان في اغلب الوقت مجرد سنترال...
الو.. ازيك يا بابا.. ماما عندك.. من فضلك اديهاني...
مافيش مرة عامل ايه يا بابا...
والنهاردة بالذات حسسته بانه ليس له قيمة في حياتك.. انت غير متعمد لكنك نسيته... او تناسيت وجوده... قاعد مهموم بينظرلك انت واخواتك وبيقول في نفسه ياترى انا عملت ايه.. العصافير الصغيرة اللي كنت بلقمها اكلها بدمي واعصابي وراحة نفسي خلاص اكتست اجنحتها بالريش وحلقت في دنيا غير الدنيا ولم تعتمد في معيشتها على ذلك الرجل فنسي مع الزمن وسقط من الصورة بالتقادم... خلاص انتهت مهمته وده واجبه..
انا مش ببالغ... عمرك جبتله هدية.. افتكرته بكلمة... وحتى يوم ما عمل عملية  وخرج من المستشفى الهدية اللي خدها منك كانت طقم صيني قدمته للست الوالدة!
فكر تاني...
http://69.89.31.233/~hoverfal/wp-content/uploads/2010/06/IMG_8748-900cropped.jpg


"امك ثم امك ثم امك..."
كلنا حافظين الحديث النبوي الجميل لما جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله من أحقُّ بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "ثم أبوك").
طيب فين الاب وسط زحمة الحياة؟

كل الصور اللي انا اتكلمت عنها كان بطلها الاب.. ياترى ليه.. ليه الراجل العجوز ده.. جايز علشان بالنسبة للام العقوق استثناء وبالنسبة للاب اصبح قاعدة.. جايز علشان صورة الراجل العجوز اللي حبس في عينه دمعة علشان مايشوفهاش ابنه وهو خارج من دار العجزة بعدما مراته وولاده فاض بيهم منه... او جايز علشان صورة الاب اللي خرج من فرنسا مقهور حامل عاره على كتافه بعدما اكتشف انه بنته راجعة البيت بعد منتصف الليل من سهرة في بيت صاحبها من حرقته وخوفه عليها ضربها بالالم فبلغت عنه وسجنته وذلته ولم ترحم كبره...  او جايز علشان الراجل ده مطلوب منه كل حاجة لانه ده واجبه.. لو اشتكى يبقى اب مابيحبش اولاده ومالوش لازمة.. 
وفي زحمة الحياة كبر الراجل ده وظهره انحنى وخفتت لمعة الحياة في عينه فاصبح مجرد ماضي.. ذكرى وصورة تتعلق على الحيطان على جنبها شريط اسود...