Tuesday, April 6, 2010

"شبح بلا ظل"





هبت في ذلك المساء نسمات باردة تنذر بحلول عاصفة... أخذت الريح تشتد شيئا فشيئا تلاعب أغصان الأشجار على أوتارها في أطراف المقبرة الموحشة... بدا صوت الريح كعواء كلاب ضالة تمزق السكون...

كانت التُرب تلك الليلة جافة موحشة... خرج حارس المقبرة لتفقد المكان في جولته المسائية المعتادة... كان وقع خطواته على الأرضية الحجرية يتعالى في رتابة.. الخطوة تلو الخطوة...
كانت آخر جنازة حضرت الى المقبرة في صباح هذا اليوم لتشييع جثمان الفنان المشهور الذي توفي فجرا اثر نوبة قلبية مفاجئة... كانت عائلة الفقيد تلتف حول النعش في نصف حلقة حينما بدأ حارس المقبرة بتجهيز غرفة الدفن... كانت نظرات حادة تطل من عيني أرملة الفقيد وهي تنظر الى جسد زوجها الذي كفن بقماش قطني فاخر قبل أن يوارى الثرى...

عاد الحارس الى غرفته الصغيرة القابعة في أحد أطراف المقبرة غير بعيد عن المقابر الحجرية وغرف الدفن... أخذ يصنع لنفسه كوبا من الشاي ويستمع الى المذياع الصغير الموضوع على طاولة خشبية تتوسط الغرفة، ثم جلس يحتسي الشاي في هدوء. وكان بين الحين والآخر يرسل نظرات خاطفة نحو النافذة التي تعلو سريره... كان الصوت الصادر عن النافذة مع اشتداد الريح عليها أشبه بنحيب أرملة شابة ابتلع الموج حبيبها... كان يخيل للحارس العجوز أحيانا بأنه صوت أطياف تسكن جنبات المقبرة، تبدأ العويل والنحيب كلما دخل المقبرة ساكن جديد.

أوى الحارس الى سريره قبيل منتصف الليل متدثرا بغطائه الثقيل اتقاء للبرد... كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل حين استيقظ حارس المقبرة فجأة، لقد خيل اليه ان يدا أمسكت كتفه وهزته بعنف...
ظل متدثرا في غطائه قليلا... حبس أنفاسه وقد استيقظت كل حواسه... مرت لحظات... خرج من تحت غطائه وأشعل مصباحه الصغير وجال ببصره في الحجرة... كانت خالية تماما ولم يكن من صوت غير أنفاسه المتقطعة... تمتم ببعض الكلمات ثم عاد الى سريره وأخذ يقرأ بعض الآيات القرآنية.
اطمأن الى ان ما حدث لم يعدُ حلما مزعجا فعاود النوم بهدوء... لم يلبث أن غط في النوم حتى استيقظ ثانية... كان صوت مكتوم آت من بعيد... جلس في سريره وأرهف السمع... كان صوتا غريبا لم يسمع مثله من قبل... أشعل المصباح وارتدى معطفه ثم خرج باتجاه الصوت...
كانت السماء ترسل مطرا غزيرا على المقبرة الصامتة، وبدت القبور سوداء داكنة تثير الرعب في النفس... اقترب حارس المقبرة بحذر من غرف الدفن الموجودة في الطرف الشمالي للمقبرة حيث اعتقد انه مصدر الصوت الغريب...
وجه المصباح داخل احدى الغرف واداره في أطرافها، صاح بصوت جهوري لكن لا مجيب... حاول مجددا تحديد مصدر الصوت... لكن الصوت كان قد تلاشى...
التفت نحو الممشى الحجري... رفع بصره الى السماء... ثم عاد أدراجه...
أطلت من تحت التراب نظرات زائغة مرتعبة ترقب حارس المقبرة من بعيد... تسلل بين القبور صوت أنين متحشرج يحاول عبثا الوصول الى أذني حارس المقبرة الذي اختفى في الظلام...
كانت عينا الشبح القابع تحت الأرض حمراوان كالجمر.. وأخذت يداه المتورمتان تشقان طريقهما خارج التراب... وأصابعه المرتعشة تمزق الكفن الأبيض في محاولة يائسة لانقاذ الجسد... أخذ ينبش قبره بعشوائية وفي كل اتجاه... كان نصف الجسد قد تحرر وأصبح خارج التراب فزاد الأمل في النجاة... بدأ العرق البارد يتصبب على جبهته وأخذ التعب يتسلل الى بدنه المنهك، وأحس بثقل قاتل بيديه فلم يعد يقوى على الاستمرار... لحظات... أخذت ضربات قلبه تتسارع بشكل مخيف... أحس بنبضات قلبه في حلقومه...حاول بكل ما تبقى له من قوة سحب نفسه من تلك الحفرة لكن نصفه السفلي كان عالقا تماما... أصابه الهلع من المصير المحتوم... حاول أن يزيل التراب عما تبقى من جسده لكن يداه كانت تحثو التراب على وجهه ورأسه... أخذ يصرخ ويصرخ... سقط رأسه على التراب مغشيا عليه...

خرج حارس المقبرة في الفجر بإبريق الماء لسقاية التُرب الجديدة... كان الطقس باردا رغم توقف المطر... توجه الى غرفة الدفن التي استخدمت أمس واتجه الى قبر الفنان المشهور... وقف بباب غرفة الدفن ووضع الابريق على الأرض ثم شرع في فتح البوابة... كاد قلبه يسقط من هول المنظر... كانت جثة الفنان ملقاة على الأرض وقد انكشف نصفه العلوي وتناثرت أجزاء الكفن الأبيض حوله بعدما اختلطت بالتراب... وعلق نصفه الآخر داخل القبر... كان لون الجلد قد مال الى الزرقة، وتيبست أنامله في وضع قاس قابضة على حفنة تراب... وفوق الجثة رقدت أحجار رخام لامعة تمت زخرفتها بعناية، كتب عليها بالطلاء الغالي اسم الفقيد... وآيات الرحمة...
تمت