Thursday, June 21, 2012

"وحيــــــــــــدا في المرآة"

 (1)
"وجوه تائهة"


"دنيا.. عمرها ما بدوم لحد يا ابني"... قالتها وهي تزفر زفرة حارة بدت غريبة في مثل ذلك اليوم البارد.. مد يده في جيبه، اخرج قطعتين نقديتين ووضعهما في يد العجوز وتمتم بكلمات الاعتذار ودون ان يتوقف ليسمع ردها مضى في الطريق يتدثر بمعطفه الثقيل يتقي به نفحات باردة حملتها رياح الشمال دون رحمة بابناء الطريق الذين قضى عليهم زمانهم بالخروج الى الطرقات في ذلك الصباح البارد... 
شعر بالم في صدره وهو يتذكر كلمات العجوز بصوتها الاجش المرتجف داخل كنزتها الصوفية المرقعة المليئة بالثقوب...
مضى متثاقلا يجر قدميه دون حماس يقطع ما تبقى من طريق عودته نحو منزله.. توقف امام الباب وادار مقبضه فلم يفتح.. حاول مجددا فوجده مغلقا.. ياله من حظ عاثر ايقن وهو يبحث في جيوبه عن مفتاحه انه سيكون مساء طويلا يصاحبه ليل بارد وستصحبه همسات الوحدة لتؤنس عتمة الجدران...
ولج الى الصالة المعتمة فاستقبلته ساعة الحائط العظيمة المتربعة فوق المدفاة بابتسامة صفراء وصوتها الرتيب يخبره بان الشمس قد اذنت بالمغيب.. دلف الى المطبخ وهو يمني نفسه بوجبة دافئة تذيب الثلوج الجاثمة فوق صدره لكن هيهات... لم يجد فوق الطاولة التي توسطت المطبخ سوى سكون المفرش المزركش بورود بدت باهتة تحجرت الوانها في صمت... وقبعت على باب الثلاجة ورقة كان واضحا انها وضعت على عجل بخطها العشوائي وحروفها الكبيرة الدقيقة تحدجه بنظرة استعلاء تخبره بكلمات قليلة بان جد والدته قد توفي وهنالك بقية من حساء العدس في الثلاجة... لا شيء اخر... ابتسم في سخرية ودارت في رأسه عشرات الافكار.. استقر منها على واحدة.. لن ياكل العدس الليلة...
خرج نحو الصالة ورمى بنفسه على الكنبة الطويلة وكان لا يزال يرتدي ملابسه، خلع حذاءه مستعينا بقدميه، شبك يده اليمنى بيسراه ووضعهما على صدره، اغمض عينيه في استسلام وتثائب في كسل محاولا استحضار سلطان النوم والتحايل عليه للمكوث معه قليلا.. احس بخدر لذيذ يتسلل الى اوصاله وسرعان ما اوصدت اذناه نوافذها فاخذ صوت دقات الساعة بالابتعاد رويدا رويدا حتى فقد اتصاله بعالم الاحياء تماما...
لم يدرك كم مضى من الوقت حين استيقظ فجاة على صوت طرقات خفيفة على باب المنزل.. فتح عينيه بصعوبة وارهف السمع عله يكون حالما.. لحظات وسمع صوت الطرقات مجددا.. التفت نحو ساعة الحائط ودقق النظر في عقاربها السوداء ظن نفسه يعاني من هلوسات النوم عرك عينيه، جلس في مكانه يعاني ثقلا في راسه، نظر مجددا الى عقارب الساعة... هل يعقل ذلك حقا... لم يمض على نومه في مكانه سوى خمس دقائق... نفض راسه محاولا استرجاع ما مر به من احداث هذا اليوم لكنه تنبه فجاة الى صوت تلك الطرقات الناعمة وكانها توشوش باب منزله تدعوه ليفتح لها... تحرك بشكل آلي وفتح الباب لكنه لم يجد احدا... هم بان يغلقه ويعود من حيث اتى لكنه توقف فجاة شرع الباب على مصراعيه وحدق في الشارع الخاوي.. انه باللون الرمادي.. كل مافيه ليس بالابيض ولا بالاسود انه.. رمادي...
احس بالم يسري في اطرافه وشيئا ما يجذبه نحو قارعة الطريق.. مشى بحذر يتلفت حوله في ضيق.. تقدم بضع خطوات ثم لاحظ انه يسير حافي القدمين.. استدار ليعود الى منزله لكن المنزل كان قد اختفى وحل مكانه دكان قديم من تلك البقالات التي تبيع كل شيء بارخص الاثمان، اقترب منها بحذر ممزوج بالفضول، وكان كلما اقترب كلما خيل اليه انه يسمع صوت موسيقى كلاسيكية من ذلك النوع البائد الذي يصدر عن الة الجرامافون القديمة...
  photo
 وقف بالباب ينظر نحو الارفف المكدسة بالاف الاشياء من تلك السلع الاستهلاكية الرخيصة والماركات المقلدة.. "كل واحد وليه يوم" فزع لسماعه ذلك الصوت الاجش مرة اخرى وخفق قلبه بشدة لما رآها تجلس على مقعد متحرك في زاوية الدكان ثم تحرك عجلات مقعدها نحوه...

 تجمد في مكانه لحظة ثم ادرك انه من الخير له ان يغادر هذا المكان وبسرعة.. خرج مسرعا نحو الطريق ولم يلتفت خلفه اخذ يهرول وهو يتصبب عرقا ثم انحرف من الشارع الرئيس نحو طريق فرعي كان يتامل ان يوصله الى منزله...
كان الطريق كحال الشارع الرئيس رمادي قاتم مليء بالازقة وجدران المنازل المرتفعة التي تطل منها شقوق صغيرة تعتبر نفسها نوافذ...
 سار على مهل عله يستدل على علامة تدله على طريق العودة.. لم يكن قد سار في هذا الطريق قبل الان رغم طول مكوثه مع عائلته في هذا الحي.. لقد امضى طفولته وصباه هو ورفاقه يجوبون شوارع الحي وازقته يلعبون ويدرسون ويفتعلون المقالب بجيرانهم الذين يتذكرهم جيدا فردا فردا.. كيف يعقل اذن ان يكون لهذا الطريق وجود.. نظر في احد الازقة وخيل اليه انه راى رجلا يمشي في الزقاق.. استبشر واسرع الخطى حتى لحق بالرجل تنحنح من خلفه وقال بصوت مرتفع “ يا عم ممكن تدلني على الطريق.. الظاهر اني توهت“، وقبل ان يكمل كلامه التفت الرجل فخفق قلبه بشدة وهو ينظر الى تلك العينين السوداوين وتلك القسمات الباردة في وجه الرجل ويديه التي بدت وكان الزمن نسيها فاصبحت بعمر الارض... لاحت حوله خيالات لبشر ليسوا من سكان الارض.. ليسوا من ابناء هذا الزمان.. اجساد احنى ظهورها الزمان ووجوه رمادية تحكي الف حكاية وثياب رثة مزقتها اوجاع البشر... جلس بعضهم على الارض واستند بعضهم الى الجدران ومضى اخرون في حركة ثقيلة نحو اخر الزقاق...





 تحول الزقاق الى حي سكني من تلك الاحياء الفقيرة.. بيوت من صفيح، اكوام من النفايات، طرق مهترئة... لا بل هي مدينة، بقايا مدينة صغيرة اكلتها وحوش الحرب وشياطينها فحولتها الى خراب... قبعت في احدى جوانبها اشلاء مدرسة صغيرة شوهت جسدها ثقوب البنادق والمدافع، وفي فناء احد المنازل جلس بعض الاطفال في جمود وقد بدت في عيونهم نظرات قاسية لم تتناسب مع مسحة الحزن البادية على وجوههم وكانهم ينتظرون من لا ياتي ابدا...


 ارتجفت شفتاه الزرقاوان وحاول التكلم لكن لسانه صمت صمتا  ثقيلا وهربت الكلمات تاركة خلفها دمعات حارة انسكبت على خده راسمة طريقها نحو الارض، سقطت ثم جفت في هدوء...
طأطأ راسه ومضى في الطريق وقد ضاع منه الامل.. مضى دون اهتداء.. مضى الى حيث توصله خطاه...