Monday, January 17, 2011

"مذبحة تكساس"


إنه يوم السابع عشر من نوفمبر لعام 1957 في مقاطعة ويسكونسون و رجال الشرطة المحليون يدخلون تلك المزرعة البالية التي ورثها "إيد جين" من والدته, بحثًا عنه فهو أحد المشتبه فيهم في قضية اختفاء "بيرنيس واردن" العجوز, صاحبة متجر الأجهزة التي اختفت فجأة و سرق متجرها, و تطوع بعض الشهود ليعلنوا أن "إيد جين" هو آخر من زار متجرها, و هكذا صار لزامًا على رجال الشرطة أن يمرّوا عليه ليستجوبوه..

لكن هذه المزرعة البالية لم تكن مشجعة على الإطلاق..


كل هذه الفوضى و كل هذه القاذورات, بدرجة لم يتخيل أحد أن يراها في المزرعة حين كانت السيدة "أوجوستا" أم "إيد" لا تزال حية.. و على الرغم من هذا كله مضى رجال الشرطة في طريقهم متجهين إلى المنزل في وسط المزرعة, و الذي لم يقل في شكله من الخارج عن المزرعة في شيء.. حتى المنازل المهجورة لا تبلغ هذه الدرجة من السوء!

كانت الرائحة النفاذة هي أول ما لاحظه رجال الشرطة.. رائحة هي مزيج من العطن و القذارة و العفن و الموت..

الشيء الثاني الذي لاحظوه كان جثة ذلك الغزال الممزق و المسلوخ و المعلقة في وضع عكـسي في سقف المطبخ, و كانت حالة الجثة تدل على أنها مرّ عليها وقت طويل و هي معلقة في هذا الوضع.. و كانت حالة الجثة هي التي جعلتهم يخطئون في التعرف عليها..


لقد كانت جثة "بيرنيس واردن"!.. و كانت بدون رأس!!

ببطء استوعب رجال الشرطة في هذا اليوم حقيقة أنهم يقفون أمام جثة آدمية, ثم تحول بحثهم عن "إيد جين" في المنزل إلى جولة في متحف للرعب, فكل شيء في هذا المنزل كان يحمل بصمة الموت و بشاعته..

سلة المهملات... غطاء المقاعد.. غطاء الأباجورات, كل هذا كان كان مصنوعًا من جلد آدمي.. وعاء الطعام كان جزءا من جمجة بشرية.. حزام مصنوع من مزيج من جلد آدمي و ألياف عضلة قلب بشري, المقعد الهزاز مصنوع بعظام آدمية, و أخيرًا زي كامل تم حياكته من الجلد الآدمي..!



و بقيادة المأمور "آرثر شيلي" بدأ البحث عن "إيد جين" و محاولة حصر عدد النساء اللاتي استخدمت جثثهن لتنفيذ متحف الرعب هذا.. و بين أهل هذه المدينة الصغيرة انتشر اسم جديد لهذه المزرعة البالية, التي حين بدءوا في حفرها عثروا على أهوال لا تصدق..

اسم (مزرعة الموت)..


نحن الآن نعرف جزءا مما فعله "إيد جين", و نحن الآن نملك المبرر الكافي لنعود إلى نقطة البداية لهذه القصة الرهيبة.. إلى كيفية تحول طفل صغير بريء إلى أشهر قاتل متسلسل في التاريخ الأمريكي....


"إيد جين".. المسكين!




ولد عام 1906 ليكون الطفل الثاني لكل من "أوجوستا" و"جورج جين" و الأخ الأصغر لـ"هنري" الذي يكبره بسبعة أعوام.. أسرة صغيرة فقيرة مكوّنة من أم متشددة دينيًا إلى درجة الهوس, و أب سكير لا يقدر حتى على إعالة أسرته, و طفلين يحتملان قسوة أمهما غير المبررة ليل نهار ..

لقد كانت الأم مختلة تمامًا و كانت متعصبة دينيًا، تقضي الليالي و هي تحكي لطفليها كيف أنهما سيقعان في هوة الجحيم إن لم يطيعاها و إن اقتربا من النساء حين يكبران, و كانت تردد لهما أن مدينتهما مدينة خطاة سيلقون مصيرهم في الآخرة بأن يحترقوا إلى الأبد في النار الهائلة..

هذه التفاصيل كانت تتردد على مسامعيهما منذ طفولتهما, و الأب لم يكن ليتدخل فهو لا يفيق من سكره إلا نادرًا, كما أن "أوجوستا" هي التي كانت تنفق على المنزل بعملها في المزرعة و بيع المحاصيل... و هكذا أصبحنا أمام نموذج أمريكي شهير, رأيناه فيما بعد في قصص القتلة المتسلسلين على مرّ السنوات, بل إن نموذج الأم المتعصبة دينيًا و التي تقود أطفالها للجنون ظهر فيما بعد في عدة أفلام و روايات, كرواية "Carrie" لـ"ستيفن كينج" و إن كانت الأم في روايته قد دفعت الثمن غاليًا, إلا أننا و على أرض الواقع, و في حالة "أوجوستا" فلم يكن هناك من يخلص طفليها منها سوى الموت ذاته.. أو المدرسة!


نعم.. لقد كان لزامًا عليها أن تلحق طفليها بالمدرسة, و هكذا خرج الطفلان من المزرعة المعزولة عن العالم, إلى حيث يتعلمون و يمرحون و يكونون الصداقات, و هي عادات اكتسبها "هنري" الأخ الأكبر بسرعة, في حين حافظ "إيد" على انعزاله الدائم, و كان خجولاً ذلك الخجل الذي كان يجعله فريسة سهلة لأقرانه في المدرسة

تقارير مدرسة "إيد" أعلنت و بوضوح أن قدراته العقلية محدودة للغاية -بعد أن دمرت أمه قدرته على التفكير- و أن المزية الوحيدة التي يتمتع بها هي ميله لقراءة مجلات الأطفال و قصص المغامرات..



و هكذا نشأ "إيد" المسكين معزولاً وحيدًا مضطهدًا من الجميع, لا صديق له سوى أمه التي كانت لا ترق معه إلا نادرًا, و في عام 1940 توفي الأب ليضطر "هنري" و"إيد" إلى مساعدة أمهما بأن يعملا في الحرف اليدوية البسيطة, و إن لم يكتسب "إيد" في هذه الفترة أي مهارة سوى إثارة تعاطف أهل المدينة الذين كانوا يشفقون عليه من خجله و عقله المحدود, فأخذوا يستعينون به كجليس للأطفال!


كان "هنري" هو من لاحظ أن علاقة "إيد" المرضية بأمه هي التي تعطل نموه العقلي, و في أكثر من مرة كان يواجه أمه بهذه الحقيقة و يلومها عليها أمام عيني "إيد" الذي أصيب بصدمة شديدة مما يسمعه.. صدمة جعلته يمقت أخاه كأنه الطاعون..



فأمه كانت بالنسبة له إله مقدس لا يصح المساس به و لا الاعتراض على تصرفاته, و إن كان "هنري" لا يدرك هذا فلا يوجد أمام "إيد" سوى حل وحيد..


و هكذا و في السادس عشر من مايو لعام 1944 لقى "هنري" حتفه في حادث شديد الغرابة.. كان مع "إيد" يكافحان النيران التي اندلعت فجأة عند أطراف المزرعة الضخمة, ليعود "إيد" بعد عدة ساعات بمفرده و تعبير البلاهة الملتصق بوجهه لا يتغير و أمه تسأله بإصرار "أين ذهب هنري؟!!".. لكنه لم يكن يجيب..


فقط حين جاءت الشرطة لتبحث عنه في المزرعة الشاسعة, دلّهم "إيد" على مكان جثته بدقة ليجدوه هناك دون أن تمسس النيران جثته و كدمة غريبة على رأسه.. رسالة واضحة, لكن الاحتمال الوحيد هو أن يكون "إيد" المسكين هو الفاعل, و هو احتمال لم يكن قابلاً حتى للنقاش..


مستحيل أن يفعلها "إيد" الخجول المضطهد.. مستحيل.. ثم إنه أخوه!

هكذا افترض الجميع أن "هنري" اختنق من الدخان, و أغلقت القضية عند هذا الحد, لتعود الحياة كما كانت, و إن كان السؤال الذي يلّح عليّ الآن هو..
هل عرفت الأم حقيقة ما حدث لـ"هنري"؟!.. لن يعرف أحد!

ففي التاسع و العشرين من ديسمبر 1945 و قبل احتفالات العام الجديد بيومين, ماتت الأم أخيرًا, لتترك "إيد" وحيدًا في هذه الدنيا..


ما لم يعرفه أحد حينها أن هذه الصدمة ستكون أعمق مما يتخيلون على نفس "إيد" الذي انهار عالمه الخاص فجأة, ليجد نفسه وحيدًا في مزرعة شاسعة, لا تحيطه سوى تعلميات أمه و كوابيسه الخاصة و كم لا ينتهي من الذكريات و من الأسرار..


في غرفة أمه -التي احتلها بعد وفاتها- و في ذلك المنزل الذي بات مهجورًا إلا منه, بدأت مراحل التحوّل ببطء صامت..

التحول إلى كابوس لن ينساه سكان هذه المدينة الصغيرة بسهولة..
أبدًا
..